الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
وإلى هذا ذهب الطبرسي، وفسر الآل بأنه شعاع يرتفع بين السماء والأرض كالماء ضحوة النهار {بِقِيعَةٍ} متعلق حذوف هو صفة سراب أي كائن بقيعة وهي الأرض المنبسطة المستوية، وقيل هي جمع قاع كجيرة في جار ونيرة في نار، وقرأ مسلمة بن محارب {بقيعات} بتاء طويلة على أنه جمع قيعة كديمات وقيمات في ديمة وقيمة، وعنه أيضًا أنه قرأ {بقيعاة} بتاء مدورة ويقف عليها بالهاء فيحتمل أن يكون جمع قيعة ووقف بالهاء على لغة طيء كما قالوا: البناه والأخواه، ويحتمل كما قال صاحب اللوامح أن يكون مفردًا وأصله قيعة كما في قراءة الجمهور لكنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف {يَحْسَبُهُ الظمان} صفة أخرى لسراب.وجوز أن يكون هو الصفة وبقيعة ظرفًا لما يتعلق به الكاف وهو الخبر؛ والحسبان الظن على المشهور وفرق بينهما الراغب بأن الظن أن يخطر النقيضان بباله ويغلب أحدهما على الآخر والحسبان أن يحكم باحدهما من غير أن يخطر الآخر بباله فيعقد عليه الأصبع ويكون بعرض أن يعتريه فيه شك، وتخصيص الحسبان بالظمآن مع شموله لكل من يراه كائنًا من كان من العطشان والريان لتكميل التشبيه بتحقيق شركة طرفية في وجه الشبه الذي هو المطلع المطمع والمقطع المؤيس.وقرأ سيبة. وأبو جعفر. ونافع بخلاف عنهما {يَحْسَبُهُ الظمان} بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم {حتى إِذَا جَاءهُ} أي إذا جاء العطشان ما حسبه ماء، وقيل إذا جاء موضعه {لَمْ يَجدْهُ} أي لم يجد ما حسبه ماء وعلق رجاءه به {شَيْئًا} أصلا لا محققًا ولا مظنونًا كان يراه من قبل فضلًا عن وجه أنه ماء، ونصب {شَيْئًا} قيل على الحالية، وأمر الاشتقاق سهل، وقيل على أنه مفعول ثان لوجد بناء على أنها من أخوات ظن، وجوز أن يكون منصوبًا على البدلية من الضمير، ويجوز إبدال النكرة من المعرفة بلا نعت إذا كان مفيدًا كما صرح به الرضى، واختار أبو البقاء أنه منصوب على المصدرية كأنه قيل لم يجده وجدانًا وهو كما ترى {وَوَجَدَ الله عِندَهُ} عطف على جملة {لَمْ يَجِدْهُ} فهو داخل في التشبيه أي ووجد الظمآن مقدوره تعالى من الهلاك عند السراب المذكور، وقيل أي وجد الله تعالى محاسبًا إياه على أن العندية عنى الحساب لذكر التوفية بعد بقوله سبحانه: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ} أي أعطاه وافيًا كاملًا حساب عمله وجزاءه أو أتم حسابه بعرض الكتبة ما قدمه {والله سَرِيعُ الحساب} لا يشغله حساب عن حساب.وفي إرشاد العقل السليم أن بيان أحوال الكفرة بطريق التمثيل قد تم بقوله سبحانه: {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}، وقوله تعالى: {وَوَجَدَ} إلخ بيان لبقية أحوالهم العارضة لهم بعد ذلك بطريق التكملة لئلا يتوهم أن قصارى أمرهم هو الخيبة والقنوط فقط كما هو شأن الظمآن. ويظهر أنه يعتريهم بعد ذلك من سوء الحال ما لا قدر للخيبة عنده أصلًا فليست الجملة معطوفة على {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} بل على ما يفهم منه بطريق التمثيل من عدم وجدان الكفرة من أعمالهم عينًا ولا أثرًا كما في قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان: 23] كيف لا وأن الحكم بأن أعمال الكفرة كسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا حكم بأنها بحيث يحسبونها في الدنيا نافعة لهم في الآخرة حتى إذا جاءوها لم يجدوها شيئًا كأنه قيل: حتى إذا جاء الكفرة يوم القيامة أعمالهم التي كانوا في الدنيا يحسبونها نافعة لهم في الآخرة لم يجدوها شيئًا ووجدوا الله أي حكمه وقضاءه عند المجيء، وقيل: عند العمل فوفاهم أي أعطاهم وافيًا حسابهم أي حساب أعمالهم المذكورة وجزاءها فإن اعتقادهم لنفعها بغير إيمان وعملهم وجبه كفر على كفر موجب للعقاب قطعًا، وإفراد الضميرين الراجعين إلى الذين كفروا إما لإرادة الجنس كالظمآن الواقع في التمثيل وإما للحمل على كل واحد منهم، وكذا افراد ما يرجع إلى أعمالهم انتهى، ورلا يخفى ما فيه من البعد وارتكاب خلاف الظاهر.وأيًا ما كان فالمراد بالظمآن مطلق الظمآن، وقيل المراد به الكافر، وإليه ذهب الزمخشري قال: شبه سبحانه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش القيامة فيحسبه ماء فيأتيه فلا يجده ويجد زبانية الله تعالى عنده يأخذونه فيسقونه الحميم والغساق وكأنه مأخوذ مما أخرجه عبد بن حميد.وابن المنذر. وابن أبي حاتم من طريق السدى في غرائبه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الكفار يبعثون يوم القيامة وردًا عطاشًا فيقولون أين الماء فيمثل لهم السراب فيحسبونه ماء فينطلقون إليه فيجدون الله تعالى عنده فيوفيهم حسابهم والله سريع الحساب» واستطيب ذلك العلامة الطبي حيث قال: إنما قيد المشبه به برؤية الكافر وجعل أحواله ما يلقاه يوم القيامة ولم يطلق لقوله تعالى: {وَوَجَدَ الله عِندَهُ} إلخ لأنه من تتمة أحوال المشبه به، وهذا الأسلوب أبلغ لأن خيبة الكافر أدخل وحصوله على خلاف ما يؤمله أعرق.وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم من حمل الظمآن على الكافر تشبيه الشيء بنفسه. ورد بأن التشبيه على ما ذكره جار الله تمثيلي أو مقيد لا مفرق كما توهم فلا يلزم من اتحاد بعض المفردات في الطرفين تشبيه الشيء بنفسه كاتحاد الفاعل في أراك تقدم رجلًا وتؤخر أخرى، وبالجملة هو أحسن مما في الإرشاد كما لا يخفى على من سلم ذهنه من غبار العناد.والآية على ما روي عن مقاتل نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام ولا يأبى ذلك قوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ} لأنه غير خاص بسبب النزول وإن خذل فيه دخولًا أوليًا، ولا يرد عليه أن الآية مدنية نزلت بعد بدر وعتبة قتل في بدر فإن كثيرًا من الآيات نزل بسبب الأموات وليس في ذلك محذور أصلًا، ثم لا يبعد أن يكون في حكم هؤلاء الكفرة الفلاسفة ومتبعوهم من المتزيين بزي الإسلام فإن اعتقاداتهم وأعمالهم حيث لم تكن على وفق الشرع كسراب بقيعة.
وناداه يا أبا غيلان أراه قد برح ففك وسلم له ذو الرمة ذلك فغير لم يكد بلم يكن أو لم أجد، والتحقيق أن الذي يقتضيه لم يكد وما كان يفعل أن الفعل لم يكن من أصله ولا قارب في الظن أن يكون ولا يشك في هذا.وقد علم أن كان موضوعة لشدة قرب الفعل من الوقوع ومشارفته فمحال أن يوجب نفيه وجود الفعل لأنه يؤدي إلى أن يكون ما قارب كذلك فالنظر إلى أنه إذا لم يكن المعنى على أن ثمت حالًا يبعد معها أن تكون ثم تغيرت كما في قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا} [البقرة: 71] إلخ يلتزم الظاهر ويجعل المعنى أن الفعل لم يقارب أن يكون فضلًا عن أن يكون والآية على ذلك وكذا البيت، وقد ذكر أن لم يكذ فيهما جواب {إِذَا} فيكون مستقبلًا وإذا قلت: إذاّخرجت لم أخرج فقد نفيت خروجًا في المستقبل فاستحال أن يكون المعنى فيهما على أن الفعل قد كان.وهذا التحقيق خلاصة ما حقق الشيخ في دلائل الاعجاز، ومنه يعلم تخطئة من زعم أن كاد نفيها إثبات وإثباتها نفي.وفي الحواشي الشهابية أن نفي كاد على التحقيق المذكور أبلغ من نفي الفعل الداخلة عليه لأن نفي مقاربته يدل على نفيه بطريق برهاني إلا أنه إذا وقع في الماضي لا ينافي ثبوته في المستقبل ورا أشعر بأنه وقع بعد اليأس منه كما في آية البقرة، وإذا وقع في المستقبل لا ينافي وقوعه في الماضي فإن قامت قرينة على ثبوته فيه أشعر بأنه انتفى وأيس منه بعد ما كان ليس كذلك كما في هذه الآية فإنه لشدة الظلمة لا يمكنه رؤية يده التي كانت نصب عينيه، ثم فرع على هذا أن لك أن تقول: إن مراد من قال: إن نفيها إثبات وإثباتها نفي أن نفيها في الماضي يشعر بالثبوت في المستقبل وعكسه كما سمعت، وهذا وجه تخطئة ابن شبرمة وتغيير ذي الرمة لأن مراده أن قديم هواها لم يقرب من الزوال في جميع الأزمان ونفيه في المستقبل يوهم ثبوته في الماضي فلا يقال: إنهما من فصحاء العرب المستشهد بكلامهم فيكف خفى ذلك عليهما ولذا استبعده في الكشف وذهب إلى أن قصتهما موضوعة أوصى بحفظ ذلك حيث قال: فاحفظه فإنه تحقيق أنيق وتوفيق دقيق سنح حض اللطف والتوفيق انتهى.ولعمري أن ما أول به كلام القائل بعيد غاية البعد ولا أظنه يقع موقع القبول عنده ونفي كل فعل في الماضي لا ينافي ثبوته في المستقبل ونفيه في المستقبل لا ينافي وقوعه في الماضي ولا اختصاص لكاد بذلك فيا ليت شعري هل دفع الإيهام ما عير إليه ذو الرمة بيته فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك، ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن مانع الرؤية شدة الظلمة وهو كذلك لأن شرط الرؤية بحسب العادة في هذه النشأة الضوء سواء كانت حض خلق الله تعالى كما ذهب إليه أهل الحق أو كانت بخروج الشعاع من العين على هيئة مخروط مصمت أو مؤلف من خطوط مجتمعة في الجانب الذي يلي الرأس أولا على هيئة مخروط بل على استواء لكن مع ثبوت طرفه الذي يلي العين واتصاله بالمرئى أو بتكيف الشعاع الذي في العين بكيفية الهواء وصيرورة الكل آلة للرؤية كما ذهب إليه فرق الرياضيين أو كانت بانطباع شبح المرئى في جزء من الرطوبة الجليدية التي تشبه البرد والجمد كما ذهب إليه الطبيعيون، وهذان المذهبان هما المشهوران للفلاسفة ونسب للاشراقيين منهم.واختاره شهاب الدين القتيل أن الرؤية قابلة المستنير للعضو الباصر الذي فيه رطوبة صقلية وإذا وجدت هذه الشروط مع زوال المانع يقع للنفس علم إشراقي حضوري على المبصر فتدركه النفس مشاهدة ظاهرة جلية بلا شعاع ولا انطباع، واختار الملا صدرا أنها بانشاء صورة مماثلة للمرئى بقدرة الله تعالى من عالم الملكوت النفساني مجردة عن المادة الخارجية حاضرة عند النفس المدركة قائمة بها قيام الفعل بفاعله لا قيام المقبول بقابله، وتحقيق ذلك بما له وما عليه في مبسوطات كتب الفلسفة ورا يظن أن الظلمة سواء كانت وجودية أو عدم ملكة من شروط الرؤية كالضوء لكن بالنسبة إلى بعض الأجسام كالأشياء التي تلمع بالليل. ونفي ابن سينا ذلك وقال: لا يمكن أن تكون الظلمة شرطًا لوجود اللوامع مبصرة وذلك لأن المضيء مرئي سواء كان الرائي في الظلمة أو في الضوء كالنار نراها مطلقًا، وأما الشمس فإنما لا يمكننا أن نراها في الظلمة لأنها متى طلعت لم تبق الظلمة، وأما الكواكب واللوامع فإنما ترى في الظلمة دون النهار لأن ضوء الشمس غالب على ضوئها وإذا انفعل الحس عن الضوء القوي لا جرم لا ينفعل عن الضعيف، فإما في الليل فليس هناك ضوء غالب على ضوئها فلا جرم ترى، وبالجملة فصيرورتها غير مرئية ليس لتوقف ذلك على الظلمة بل لوجود المانع عن الرؤية وهو وجود الضوء الغالب انتهى، ويمكن أن يقال: إن ضوء الشمس على ما ذكر مانع عن رؤية اللوامع ورفع مانع الرؤية شرط لها ودفع الضوء هو الظلمة فالظلمة شرط رؤية اللوامع بالليل وهو المطلوب فتدبر ولا تغفل والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.{وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} اعتراض تذييلي جيء به لتقرير ما أفاده التمثيل من كون أعمال الكفار كما فصل وتحقيق أن ذلك لعدم هدايته تعالى إياهم لنوره، وإيراد الموصول للإشارة بما في حيز الصلة إلى علة الحكم وأنهم ممن لم يشأ الله تعالى هدايتهم أي من لم يشأ الله تعالى أن يهديه الله سبحانه لنوره في الدنيا فما له هداية ما من أحد أصلًا فيها، وقيل: معنى الآية من لم يكن له نور في الدنيا فلا نور له في الآخرة. وقيل: كلا الأمرين في الآخرة، والمعنى من لم ينوره الله تعالى بعفوه ويرحمه برحمته يوم القيامة فلا رحمة له من أحد فيها والمعول عليه ما تقدم. والظاهر أن المراد تشبيه أعمال الكفرة بالظلمات المتكاثفة من غير اعتبار أجزاء في طرفي التشبيه يعتبر تشبيه بعضها ببعض، ومنهم من اعتبر ذلك فقال: الظلمات الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة والبحر اللجى صدر الكافر وقلبه والموج الضلال والجهالة التي قد غمرت قلبه والموج الثاني الفكر المعوجة والسحاب شهوته في الكفر وإعراضه عن الإيمان. وقيل: الظلمات أعمال الكافر والبحر هواه العميق القعر الكثير الخطر الغريق هو فيه والموج ما يغشى قلبه من الجهل والغفلة. والموج الثاني ما يغشاه من شك وشبهة والسحاب ما يغشاه من شرك وحيرة فيمنعه من الاهتداء والكل كما ترى ولو جعل من باب الإشارة لهان الأمر.ومن باب الإشارة: ما قيل إن في قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ المؤمنين} [النور: 2] إشارة إلى أنه ينبغي للشيخ إذا أراد تأديب المريد وكسر نفسه الأمارة أن يؤد به حضر طائفة من المريدين الذين لا يحتاجون إلى تأديب. ومن هنا قال أبو بكر بن طاهر: لا يشهد مواضع التأديب إلا من لا يستحق التأديب وهم طائفة من المؤمنين لا المؤمنون أجمع، والزنا عندهم إشارة إلى الميل للدنيا وشهواتها، وفي قوله تعالى: {الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} [النور: 3] إلخ. وقوله تعالى: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ} [النور: 26] إلخ إشارة إلى أنه لا ينبغي للأخيار معاشرة الأشرار، إن الطيور على أشباهها تقع.وفي قوله تعالى: {لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [النور: 11] إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن يشنع عليه المنكرون من المشايخ أن يحزن من ذلك ويظنه شرًا له فإنه خير له موجب لترقيه.وفي قوله تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل} [النور: 22] إلخ إشارة إلى أنه ينبغي للشيوخ والأكابر أن لا يهجروا أصحاب العثرات وأهل الزلات من المريدين وأن لا يقطعوا إحسانهم وفيوضاتهم عنهم، وفي قوله تعالى: {كَرِيمٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا} [النور: 27] إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن يريد الدخول على الأولياء أن يدخل حتى يجد روح القبول والإذن بإفاضة المدد الروحاني على قلبه المشار إليه بالاستئناس فإنه قد يكون للولي حال لا يليق للداخل أن يحضره فيه ورا يضره ذلك، وأطرد بعض الصوفية ذلك فيمن يريد الدخول لزيارة قبور الأولياء قدس الله تعالى أسرارهم فقال: ينبغي لمن أراد ذلك أن يقف بالباب على أكمل ما يكون من الأدب ويجمع حواسه ويعتمد بقلبه طالبًا الإذن ويجعل شيخه واسطة بينه وبين الولي المزور في ذلك فإن حصل له انشراح صدر ومدد روحاني وفيض باطني فليدخل وإلا فليرجع، وهذا هو المعنى بأدب الزيارة عندهم ولم نجد ذلك عن أحد من السلف الصالح. والشيعة عند زيارتهم للأئمة رضي الله تعالى عنهم ينادي أحدهم أأدخل يا أمير المؤمنين أو يا ابن بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام أو نحوه ذلك ويزعمون أن علامة الإذن حصول رقة القلب ودمع العين وهو أيضًا مما لم نعرفه عن أحد من السلف ولا ذكره فقهاؤنا وما أظنه إلا بدعة ولا يعد فاعلها إلا مضحكة للعقلاء، وكون المزور حيًا في قبره لا يستدعي الاستئذان في الدخول لزيارته، وكذا ما ذكره بعض الفقهاء من أنه ينبغي للزائر التأدب مع المزور كما يتأدب معه حيًا كما لا يخفى. وقد رأيت بعد كتابتي هذه في «الجوهر المنتظم» في زيارة القبر المعظم صلى الله تعالى على صاحبه وسلم لابن حجر المكي ما نصه، قال بعضهم: وينبغي أن يقف يعني الزائر بالباب وقفة لطيفة كالمستأذن في الدخول على العظماء انتهى.وفيه أنه لا أصل لذلك ولا حال ولا أدب يقتضيه انتهى. ومنه يعلم أنه إذا لم يشرع ذلك في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام فعدم مشروعيته في زيارة غيره من باب أولى فاحفظ ذاك والله تعالى يعصمنا من البدع وإياك. وقيل في قوله تعالى: {قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم} [النور: 30] إلخ إن فيه أمرًا بغض بصر النفس عن مشتيهات الدنيا وبصر القلب عن رؤية الأعمال ونعيم الآخرة وبصر السر عن الدرجات والقربات وبصر الروح عن الالتفات إلى ما سوى الله تعالى وبصر الهمة عن أن يرى نفسه أهلًا لشهود الحق تنزيهًا له تعالى وإجلالًا، وأمرًا بحفظ فرج الباطن عن تصرفات الكونين فيه، والإشارة بأمر النساء بعدم إبداء الزينة إلا لمن استثنى إلى أنه لا ينبغي لمن تزين بزينة الإسرار أن يظهرها لغير المحارم ومن لم يسترها عن الأجانب.وبقوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الايامى مِنْكُمْ} إلخ إلى النكاح المعنوي وهو أن يودع الشيخ الكامل في رحم القلب من صلب الولاية نطفة استعداد قبول الفيض الإلهي. وقد أشير إلى هذا الاستعداد بقوله سبحانه: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ} [النور: 32] ثم قال جل وعلا: {وَلْيَسْتَعْفِفِ} أي ليحفظ {الذين لاَ يَجِدُونَ} شيخًا في الحال أرحام قلوبهم عن تصرفات الدنيا والهوى والشيطان {حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} بأن يوفق لهم شيخًا كاملًا أو يخصهم سبحانه بجذبة من جذباته، وأشير بقوله تعالى: {والذين يَبْتَغُونَ الكتاب} إلخ إلى أن المريد إذا طلب الخلاص عن قيد الرياضة لزم إجابته إن علم فيه الخير وهو التوحيد والمعرفة والتوكل والرضا والقناعة وصدق العمل والوفاء بالعهد ووجب أن يؤتى بعض المواهب التي خصها الله تعالى بها الشيخ، وأشير بقوله تعالى: {وَلاَ تُكْرِهُواْ} [النور: 33] إلخ إلى أن النفس إذا لم تكن مائلة إلى التصرف في الدنيا لم تكره عليه. ولهم في قوله تعالى: {الله نُورُ السموات والأرض} [النور: 35] كلام طويل عريض وفيما قدمنا ما يصلح أن يكون من هذا الباب، وذكر أن قوله تعالى: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} [النور: 37] مما يدخل في عمومه أهل الطريقة العلية النقشبندية الذين حصل لهم الذكر القلبي ورسخ في قلوبهم بحيث لا يغفلون عنه سبحانه في حال من الأحوال وهذا وإن ثبت لغيرهم أيضًا من أرباب الطرائق فإنما يثبت في النهايات دون المبادئ كما يثبت لأهل تلك الطريقة. وفي مكتوبات الإمام الرباني قدس سره ما يغني عن الإطالة في شرح أحوال هؤلاء القوم وبيان منزلتهم في الذكر والحضور بين سائر الأقوام حشرتا الله تعالى وإياهم تحت لواء النبي عليه الصلاة والسلام، وقيل إن قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} [النور: 40] إشارة لما ورد في حديث: «خلق الله تعالى الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه منه اهتدى ومنه أخطأه ضل» والله تعالى الموفق لصالح العمل.
|